أريحا سبقت الأهرامات بـ4000 سنة
القدس: أسامة العيسة
على بعد نحو كيلومترين من مركز مدينة أريحا، يقع تل اصطناعي بيضاوي الشكل، يعرف باسم «تل السلطان»، تعود إليه الشهرة التي تعرف بها واحة أريحا، بأنها أقدم مدينة في العالم. يعتبر هذا التل اقدم مستوطنة بشرية في العالم، ورغم أهميته التي استحوذت على اهتمام الباحثين، إلا انه غير مسجل على لائحة التراث العالمي، وهو ما تحاول فعله دائرة الآثار الفلسطينية في هذه الأيام.
واعلن الدكتور حمدان طه، رئيس دائرة الآثار الفلسطينية، ان الدائرة بدأت إجراءات لتسجيل موقع تل السلطان، وبلدة بيت لحم القديمة وكنيسة المهد على لائحة التراث العالمية في اليونسكو، بدعم من المجموعتين العربية والإسلامية، ومجموعة الاتحاد الأوروبي في لجنة التراث العالمية.
وأعدت الدائرة بالفعل ملفات الترشيح لهذين الموقعين المهمين، فكنيسة المهد في مدينة بيت لحم، من اشهر الكنائس في العالم لارتباطها بالتقليد المسيحي الذي يشير إلى ولادة السيد المسيح، عليه السلام فيها.
* امرأة تبدأ الحكاية
أما تل السلطان، فربما يكون اقل شهرة من كنيسة المهد بالنسبة للجمهور العام، وبدأت حكايته مع عالمة آثار بريطانية، أصبحت شهيرة فيما بعد، هي كاثلين كينيون، التي نقبت عام 1951 في التل، لتفاجئ العالم بعثورها على بقايا مستوطنات بشرية تعود إلى 9000 سنة ق.م.
لم تكن كينيون أول من نقب في هذا التل الصغير، الذي أصبح يعرف بأريحا القديمة، فقد سبقها كثيرون. ففي أريحا والمدن الفلسطينية الأخرى انطلقت حملة تنقيب كبيرة منذ أكثر من أربعة قرون، على يد بعثات أجنبية بحثا عن جغرافية التوراة، وعن الأماكن التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس، وان كانت حملات البحث لم تسفر عن اكتشاف ما أراده المنقبون، إلا أنها كشفت عن الكثير.
وفي تل السلطان بدأت بعثة ألمانية ـ نمساوية، الحفريات فيه، في عام 1911، ولكن هذه البعثة لم تحقق نتائج ملموسة، ولكن حفريات، نفذتها مدرسة الآثار البريطانية بالقدس بين عامي 1930 ـ 1936 أسفرت عن اكتشافات مهمة أعلنها البروفيسور جون جارستانج، مسؤول البعثة، ومنها العثور على خنادق وطبقات أثرية تعود لنحو 6 آلاف قبل الميلاد. وعثرت البعثة البريطانية على أضرحة دقيقة الصنع تعود إلى العصر البرونزي الأوسط، والمعروف فلسطينيا، باسم عصر الهكسوس.
وجارسنغ، هو أول مدير لدائرة الآثار الفلسطينية، عين في منصبه عام 1920، وكان، مثل كثيرين غيره، من أنصار المنهج التوراتي في التنقيب الأثري في فلسطين، فشجع المنقبين أصحاب الفكر الصهيوني على العمل ووضع بتصرفهم الإمكانيات اللازمة خصوصا ان عمله لم يكن بعيدا عن هدف سياسي للانتداب البريطاني، صاحب وعد بلفور بتمكين اليهود من «وطن قومي» في فلسطين.
* منهج مختلف
وعندما جاءت الدكتورة كينيون بعد ذلك لتكمل ما فعله مواطنوها كان لديها ثقة بأن التل لن يخذلها، وهو ما حدث.
وربما الأهم أنها اختلفت عمن سبقوها وخصوصا جارسنغ، في المنهج. فهي أدركت منذ البداية ان من الخطأ استمرار الربط التعسفي بين أي كشف اثري وقصص التوراة، ويمكن القول إن كينيون كان لها فيما بعد اثر بالغ على جيل من الأثريين، تعتبر هي أستاذتهم، كانوا مخلصين لعملهم البحثي والتنقيبي، أكثر من إخلاصهم لأية دعاوى آيديولوجية أو دينية.
عملت كينيون في التل حتى عام 1961 وكانت الاكتشافات تتوالى ونشرت عن ذلك في مجلدين كبيرين.
أشارت كينيون إلى أن تل السلطان هو عبارة عن بقايا لنحو 23 حضارة قديمة، تتالت على المكان ومساحته نحو 3 هكتارات، وكشفت عن خندق عرضه 9 أمتار وعمقه أكثر من 3 أمتار، محفورا داخل الصخر، وكشفت عن أكثر من مئة قبر وأختام وبذور وعلى ما اعتبر أقدم نظام درج في العالم، وأقدم حائط أو ساتر كبير وأقدم برج دائري للدفاع في العالم، يعود إلى 8000 ـ 9000 سنة قبل الميلاد.
وهذه الاكتشافات جعلت كينيون تقول وعلى الملأ ان أريحا هي أقدم مدينة في العالم، محددة العصور التي استوطن الإنسان فيها، حتى العصر البيزنطي، والإسلامي الأول.
وكان لدى كينيون من خلال هذه الاكتشافات ما يشير إلى أن أريحا شهدت سلطة مركزية وكانت أولى الحضارات في تدجين الحيوانات والزراعة المنظمة وصناعة الفخار، وان ما كشفته كالبرج الدفاعي والسور سبقت الأهرامات بنحو 4000 سنة.
* ثورة أثرية
ويمكن الإشارة إلى أن كينيون أحدثت ما يمكن اعتباره ثورة أثرية، عندما رفضت الرواية التوراتية حول أريحا، وهدم أسوارها المحصنة من قبل يشوع بن نون، مشيرة إلى أن الاكتشافات لم تنبئ عن أي شيء من ذلك، وهو الأمر الذي ما زال يثير جدلا حتى الان.
والان تقدم دائرة الآثار الفلسطينية مبررات إدراج تل السلطان، على لائحة التراث العالمي بالقول «تتمتع تل السلطان بأهمية كونية من حيث انها المدينة الأقدم في العالم التي تضم أقدم نظام تحصيني مدعوم ببرج ودرج داخلي، وتدل المعالم الأثرية التي تنتمي إلى العصر الحجري الحديث والتي تمت صيانتها بشكل جيد على نشوء شكل مبكر لنظام اجتماعي وسياسي متطور».
وتضيف «تعد مدينة تل السلطان في العصر الحجري الحديث مثالا فريدا للتطور الزراعي والديني ما قبل نحو عشرة آلاف عام وهي أقدم بناء مشيد من هذا النوع في العالم بأسره، وستبقى شاهدا استثنائيا على التقاليد الثقافية التي اندثرت وزالت وعلى الحضارات حتى القرن السادس قبل الميلاد، وأبرز مثال على ذلك الجماجم المكسوة بالجص التي وضعت فيها أصداف مكان العين».
ورغم كشف كينيون الذي ينظر إليه بأهمية في العالم حول «تل السلطان» إلا انه لا يحظى محليا بنفس الاهتمام الذي تحظى به «عين السلطان» التي تقع بجوار التل، بل ان هذه العين أكثر شهرة بكثير من هذا التل الأثري الذي يقصده باستمرار أثاريون من العالم، مقتفين اثر كينيون.
وتسمى عين السلطان، أيضا بعين اليشع، نسبة للنبي الذي يحمل نفس الاسم، والذي، حسب قصة توراتية قام بتحلية مياه العين، التي تعتبر الان أهم ينابيع أريحا، وتنتج نحو 700 متر مكعب في الساعة، وبالإضافة إلى هذا النبع هناك عدة ينابيع هي التي جعلت أريحا واحة في برية القدس، او بيداء البحر الميت، وهذه الينابيع هي: نويعمة، وديوك، والعوجا، والقلط، وسمي نبع عين السلطان بهذا الاسم لأن البابلين اقتلعوا عيني أحد ملوكهم في المكان.
بالقرب من عين السلطان عملت كينيون وشربت واغتسلت بمائه حتى عام 1961، عندما انتقلت إلى القدس، حيث كشفت حفرياتها عن آثار أخرى مهمة، ولكن لم يقدر لها الاستمرار. في يونيو (حزيران) 1967 تغير كل شيء فجأة، بعد هزيمة الجيوش العربية، وسقوط المدينة تحت الاحتلال الذي جاء إلى المدينة بخطط كثيرة منها ما يتعلق بالآثار، فألغى التصاريح التي منحتها الحكومة الأردنية للآثاريين من مختلف دول العالم، وحصر التنقيب بإسرائيليين كانوا ينتظرون سقوط القدس لتبدأ حملة تنقيب وحفريات محمومة لم تنته حتى الان، وهي حملة تخيم عليها الشبهات السياسية والآيديولوجية.
وعادت كينيون الى لندن التي ولدت فيها عام 1906 ابنة للسير فريديك كينيون، الذي عمل كمدير للمتحف البريطاني لأكثر من عشرين عاما.
ورغم أنها استمرت في بحثها إلا أن اكتشافها لأقدم مدينة في العالم هو ما ظل يثير النقاش حولها الذي كان يتجدد بين فترة وأخرى، ومنها ما كان في عام 1981 عندما كان عليها أن تواجه من جديد تفسيرات آثاريين لاكتشافها في أريحا وعلاقته بقصة يشوع بين نون في التوراة، فردت على ذلك بالكتابة في صحف أميركية وبريطانية «في أريحا ثمة أحلام، وخرائب، وأشباح، لم أجد جرة مهجورة ربما تركتها ربة منزل قبل الغزو الإسرائيلي للمدينة، لم أجد شيئا يعود لعصر يشوع».
ورغم الهجوم الذي لم ينقطع عليها، والذي اتخذ صبغة علمية، إلا انه كان هناك مَنْ قدّر إسهاماتها الجوهرية في علم الآثار، فمنحتها الملكة إليزابيث الثانية عام 1973، وساما ولقبا، وفي عام 1978 توفيت كينيون، التي لم تتزوج، وحيدة عن عمر 72 عاما، والتي ينظر إليها الان كواحدة من أهم الآثاريين في القرن العشرين. وربما يكون السعي المتأخر كثيرا لإدراج تل السلطان على لائحة التراث العالمي، في أحد وجوهه تكريما لهذه العالمة المختلفة، التي سددت ضربات قاصمة لمدارس علم الآثار التوراتية التي خلطت الدين بالسياسة بالآثار على نحو غير مسبوق، ربما، في التاريخ البشري. وهو الخلط الذي يدفع ثمنه من سلم ورفاه وتقدم منطقة الشرق الأوسط، ومعاناة شعوبها.
